إلى أين؟ مستقبل البحث في اللغات والعلوم الإنسانية

إلى أين؟
مستقبل البحث في اللغات والعلوم الإنسانية
د.هيثم زينهم
يمر المتخصصون في حقول اللغات والعلوم الإنسانية بأزمة حقيقة متجذرة بجذور أزمة هذه العلوم، وخصوصًا مع ظهر الذكاء الاصطناعي AI وأدواته الكثيرة متعددة الأغراض، ليعزف الأجيال القادمة عن مجرد النظر لهذه العلوم سواء كانت لغات أو علوم إنسانية كنتيجة طبيعية عند عدم وضوح الفائدة أو الجدوى مقارنة بغيرها من العلوم الطبيعية أو الذكاء الاصطناعي، متجاهلين في ذلك كون الذكاء الاصطناعي لا قيمة له بلا معرفة حقيقة لما يعالجه سواء كانت هذه المعرفة إنسانية أو طبيعية ، فضلا عن طريقة عمل الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد في ركيزته الرئيسة على التحليل اللغوي ومعالجة المعنى من خلال لغة النصوص المتاحة.
إنَّ عين الحق تقول إن المعرفة التي لا فائدة منها لا داع لمعرفتها، ونحن في عصـر سريع التطورات بسرعة التقنية والذكاء الاصطناعي ومعالجة البيانات، يرتبط ارتباطا مباشرا بسرعة الإنتاج الذي يلبي حـاجات الأسواق ليس المحلية بل الدولية والعالمية.
في هذا الصدد تمــر العلوم الإنسانية بمجموعة من التحديات تشكل أزمتها، وتقف عائقا أمام مجاراتها متطلبات السوق التي تطورات بتطور الذكاء الاصطناعي، على رأسهـا وضعها في كفـة من قبل المتخصصين وغير المتخصصين مقارنة بالعلوم الطبيعية؛ ومن ثم تتهم بالتعقيد والذاتية وعدم الموضوعية نتيجة عدم الخضوع للتكرار والتعميم والقياس والمنطق، وهي مجموعة رئيسة من متطلبات التقنية والمعالجات الآلية.، فيأتي الحـكم صــارخـا بتأخرها، فتعميماتها لا تساوي تعميمات العلوم الطبيعية.
إن أزمة اللغات والعلوم الإنسانية ليست في ذاتها، فهي علوم لا يمكـن الاستغناء عنها إذا تطورت بتطور عصورها ومتطلبات الإنسان المعاصرة، لكــن جمودها وانعزالها الذي أدى إلى تأخرها وغربتها كفيل بالقضاء عليها إذا استمرت منتجاتها ومخرجاتها راجعة لمنطق السرد والتذكر بعد الحفظ واستنتاجات سطحية شكلية يستطيع الذكاء الاصطناعي AI توفيرها.
كيف نطــلب من طــالبٍ الإبداعَ والابتكـــارَ، ومخرجات تعلمه تركز فقط على الاسترجاع لما حفظ، والتركيز على المسلمات التي قد لا تتوافق مع منطقه في لحظات تعلمه، فيكون التلقين والحفظ قمعـا وقهرا للإبداع والابتكــار نتيجة التركيز على هذا الفص من الذهــن وتجاهل نظيره الخاص بالفهم المنطق والتشكيل الجديد للعلاقات الجديدة.
إن مقارنة بسيطة بين حالة الطفل بفطرته الربانية، وسؤالـــه المتكرر عن المنطق والعلل والأسباب بكلمات مثل: (لماذا؟- لم، ليه) وبين حالته مثلا في سن 10 سنوات، ومعاملته المعلومات كلها بنظام شكلي واحد يقوم فقط على استرجاعها، لدرجة قبوله متناقضين في وقت واحد بلا أدنى ذرة انتباه إلى هذا التناقــض كفيــلة بحسم قضية مراجعة مناهج دراسة هذه العلوم وطرق تعليمها التقليدية التي أصبحت غير مناسبة لأجيال الذكاء الاصطناعي والثورة التقنية.
فرق كبير بين أن أعــلم الطالب -على سبيل المثال- (الأفعال الخمسة: كل فعل مضارع اتصل به ألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المخاطبة)، وحفظ الطلبة لها بهذا الشكل، بلا أدنى انتباه للعدد(الخمسة) في المصطلح، وحصرها (ثلاثة) في التعريف، وبين منطق هذا الشكل من الأفعال، وركائز علاقته في النظام اللغوي، فهناك فرقٌ كبيرٌ بين التركيز على حفظ العلاقة، وبين فهم منطقها ومكانها في النظام العام، فأي منهما نختار إذا أردنا الإبداع والابتكار.
كيف نطلب من الأجيال المعاصرة -ونحــن في عصر رقمي محوسب- الإبداع والابتكار، والمدخلات المحصلة لهم متوقفة عند حد الحفظ والاستذكار، بلا مبرر لمنطقها وركائز علاقاتها؟ ناسين في ذلك أنَّ الذكاء الاصطناعي AI بكل طاقته وقدراته وأدواته لا يمكــن له معالجة أي شيء مهما كان إلا بصياغة المنطق والأسباب والعلل كما يفهمها هـــــو، وهو ما نجحت في متخصصو العلوم المتقدمة بتقدم الذكاء الاصطناعي.
إن الأزمــة ليست في العلوم، كما أنها ليست في الطلبة والأجيال المعاصرة، لكنهــا في شكل منتجها المعرفي الذي أصبح غير مناسب لهذا العــصر، ومن ثم لا يلبي متطلباته ومتطلبات الأسواق العالمية أو المحلية؛ لذا يجب على المتخصصين والدارسين في هذه اللحــظة الفارقــة مراجعة هذه العلوم ومناهجها وشكل منتجها المعرفي ليخرج دورهم من طور التذكر والسرد والاستنتاج إلى مستوى إبداعي نابع من دمج اللغات والإنسانيات مع الحوسبة والبرمجة، فتكون المحصلة الكثير من البرامج الوظيفية التطبيقية التي تخدم البشرية والعالم كله تلبية لمتطلبات الأسواق المحلية والدولية والمحلية.
إن أدوات الذكاء الاصطناعيAI لا تأتي إلا من مشكلة إنسانية أو حاجـة سوقية، تقوم على تلبيتها بخصائص الذكاء الاصطناعي الثابتة المعروفة، وحاجات الإنسان متعددة متطورة، والذكاء الاصطناعي مفتقر إلى مــادة علمية وفق متطلباته يستطيع من خلالها سد الفجــوات الكثيرة المتعلقة بالعلوم غير الطبيعية، وذلك مثل: الترجمة والتدقيق اللغوي وعلم النفس والاجتماع والفلسفة والمنطق والتاريخ والجغرافيا والمكتبات والقانون والمحاسبة والإعلام والفنون ... وغيرها.
إن إعادة النظر في صياغة هذه العلوم، وتعديل مناهجها بشكلٍ يحقق متطلبات السوق، ويشبع الحاجات الإنسانية يفتح أفقًــا رحبًــا مع الذكاء الاصطناعي وسياقات الثورة الرقمية يستوعب الكثيرَ والكثيرَ من الأجيال الحالية والقــادمة ويوفر الكثير من العلوم المنتجة لا المستهلكة فقط، مما يدعم الاقتصاد بجميع أنواعه الفردية والمجتمعية، وهو ما أشار إليه فخامة رئيس جمهورية مصر العربية، الرئيس عبد الفتاح السيسي.
إن الحواجز القاطعة بين العلوم لا يقبلها الذكاء الاصطناعي الآن، ومن ثم لا بـد من إعادة النــظر في الخريطة العلمية لدراسة هذه العلوم بما يحقق الدقــــة، ويوفر التكــامل والأصول المنطقية التي يعالج من خلالها الإنســان والذكاء الاصطناعي مدخلاته ومخرجـــاته. إن القضية ليست في أسماء البرامج أو الأقسام العلمية، لكـــن في مخرجات التعلم ونواتجه وأهدافه الخاصة بهذه البرامج في هذه التخصصات، فهي في حاجة إلى تحديث شجاع يؤهلها لمواكبة العصر ومستجدات، ولسوق العمل ومتطلباته، ومن ثم تحديث طبيعة المواد العلمية والتعليمية المطروحة وفق معطيات العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، كما وجه بذلك فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
خلاصة القول – يأبى من يأبي، ويوافق من يوافق- إن هناك الكثير من الوظــائف ستندثر في الأعوام القليلة القــادمة، ومعيار هذا الاندثـــــار التقليدية والخلو من الإبداعية؛ فأي وظيفة ليس فيها جديد ستندثر قطعـًــا، بلا أدنى شك حتى وإن كان المجتمع في حاجة إليها؛ لأن الذكاء الاصطناعي سيوفرهـــا ويؤدهــــا. في مقـــابل ذلك ستظهر وظائف جديدة، تتخــذ من الذكاء الاصطناعي مسارًا لإبداع جديد، وابتكـــار معاصر مختلف. فأيــــن دراسة اللغات والإنســـانيات من هذا المستقبل؟
تعليقات
إرسال تعليق